السبحة اصلها وهوايتها - عبد الصاحب عمران الدجيلي
مقال نشر في مجلة التراث الشعبي في بغداد/ الجزء الثامن من السنة الاولى محرم- سنة 139 هـ / نيسان سنة 1970مـ
الهواية : اسم من ( هوى ) والهوى مقصور -
مصدر هویه ، اذا احبه أو عشقه أو علق به ، ومنه استهوته الشياطين اذا ذهبت بهواه
وعقله ، أو استهامته وحيرته ، أو زینت له هواه .
ثم اطلق لفظ الهوى على ميل النفس وانحرافها ،
وانه یهوی بصاحبه إلى النار ، ومنه الاستعمال في الميل المذموم فقيل : اشبع هواه ،
وهو من أهل الأهواء ای ممن زاغ عن الطريقة المُثلى و كان من أهل البدع .
والهواية : تكاد تكون ذات صلة عريقة بطبيعة
الإنسان ، واختلافها وتعدد اتجاهاتها منوط باختلاف الطبائع او الميول ، أو تعدد
الرغبات والاذواق ، وللناس فيما يعشقون مذاهب .
ومسألة الذوق من المسائل التي تستدعي النظر .
ومن غير الممكن مناقشة او معارضة أي انسان في ذوقه حتى ولو كان هذا الذوق في رأي الاخرین
مخالفا لطبيعة الأشياء والنواميس العامة .
وربما يرد السؤال هنا : هل ان في بعض
الهوايات شذوذا وانحرافات ؟ والواقع ان في بعض هذه الهوايات شتى المفارقات ، وفيها
من الطرائف والغرائب ما تحتار فيه النفس ويعيا بتفسيره الفكر !
اما الشذوذ فيها فقد يصل إلى ارتکاب قضايا غير
معقولة ، حيث لا يمكن تقدير الدوافع والدواعي و تفسيرها بغير اشباع النقص أو شهوات
الطبع ، وأحادیث ذلك وحکا یا ته عديدة الأمثلة والنظائر ، ولذا فلا غرو أن تكون
بعض انواع الهواية غواية !
ومن الطرافة في ذلك: أن ( الربعي وابن جني )
العالمين المعروفين کانا يمشيان فاجتازا على باب خربة ، فرأي الربعي كلبا - وكان
مغری بقتل الكلاب ! - فقال لابن جني : قف على الباب ، ودخل ، فلما رأه الكلب يريد
أن يقتله هرب وخرج ولم يقدر ابن جني على منعه ، فقال الربعي : ويلك يا ابن جني !
مدبر في النحو ومدبر في قتل الكلاب ؟!
ومنشأ الهواية ، أية هواية ، ربما كانت في بادئ
الأمر لملء الفراغ وحب التسلية حتى اذا استمكنت من النفس كانت وسائل وعوامل لاهداف
وغايات !
وفي الهوايات واولاعها ، وتعدد أنواعها ، كثير من
الغرائب ، وربما رجحت كفة التوافه او المضحكات فيها على ما سواها من المعقول
والمقبول .
واكثر هذه الهوايات شيوعا وانتشارا - وبخاصة في
الشرق - هواية ( السبحة ) - الخرزات المنظومة المتداولة.
جاء في اللغة : السبحة بالفم ج سبح وسبحات بضمتين
، خرزات منظومة ، « والسبحة التي يسبح بها » ويقتضى هذا أن تكون عربية وان ذهب
بعضهم إلى أنها مولدة .
ولعل اطلاقها على
الخرزات مستعار من أصل استعمالها وهو التسبيح بمعنى الذكر والصلاة او الدعاء ، او
قول المرء : سبحان الله ، ويقال : سبحت الله أي نزهته من كل سوء براءة ، وهو يسبح
بمعنى يصلي السبحة فريضة كانت أو نافلة ،
ومنه قوله تعالى : « فلولا أنه كان من المسبحين ، إلى آخر ما هنالك من المعاني.
وكانت السبحة في
بادئ الامر عبارة عن حفنة او قبضة من الحصيات ونحوها تستعمل من قبل الاتقياء
والصالحين والصوفية والمتصوفين لضبط عدد الصلوات او الاوراد او التكبيرات وغيرها
من الأغرض الدينية .
ثم تطور الأمر إلى خرزات منظومة وبأعداد معلومة ،
تتسم بطابع التقديس في موضوعها الديني البحت غير المشوب بأي غرض دنیوي باعتبار
نشأتها في ظل الدين والعبادة وارتباطها بتسبيح اسماء الجلالة .
وكان عدد حباتها مئة حبة او تسعة وتسعين مقسمة إلى ثلاثة
أقسام يفصل بين كل قسم فاصل يسمى ( شاهد- شاهود ) والشاهد ذا خرزة تتفق مع الخرزات
نوعا وتتباین حجما وتنتهي كلها في اصل الخيط بعقدة او ربطة تسمى ( مئذنة ).
ولعل الأصل في تقسيم
السبحة إلى هذه الأقسام المتساوية تقريبا مأخوذ من الحديث النبوي الوارد في اعداد
: التكبير، والتسبيح، والتحميد، عقب أداء الفريضة .
اما نوع السبحات التي يتخذها المتدينون فغالبا ما تكون
من الطين المفخور والانواع الرخيصة .
وأتذكر بالمناسبة ما
نسب إلى شاعر كبير .. الابيات الآتية متندراً بأولئك المعنيين بالسبحة في اذكارهم واورادهم :
انظر الى سبحتــه تعرف ما اقول لـــك
شيطانه کسلكهـــا بين
الثقوب قد سَلَــك
(یا ذرة) من بيتنا قد
ارتقت الى الفلــك
ولشاعر قديم - لم أقف
على اسمه - في هذا المعنى ، وقد ابدع في التورية :
اتری الشيخ الذي في
ذلك المحراب سبـح
فهو كالجزار فینـــــا يذكر الله ، ويذبـــــح
ويقال : ان
الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كانت تعنى بالسبحة في اغراضها الدينية الخاصة ، وانها
اخذتها عن العرب وذلك خلال القرن الثاني عشر الميلادي بنتيجة الحروب الصليبية بين
العرب والافرنج .
واذا كانت السبحة قد بدا استعمالها واتخاذها أول الأمر ۔ کما اشرنا -
في النواحي الدينية ، فان استعمالها تطور اللى هواية واسعة ذات اهداف واغراض
متعددة واصبحت حاجة من حاجات الرجل الشخصية في المتعة ، والعبث والتسلية ، او
التحليق في عالم الخيال والتأمل، أو الظهور والمباهاة وكسب الوجاهة ، أو أداة من
أدوات النصب والاغراء ، أو غير ذلك .
اما انتشار استعمالها واقتناؤها فقد جاء دو في الاستمتاع بها والانقياد لسحرها
والسبحات الان انواع متعددة وبأحجام واعداد مختلفة منها ما يتكون من ثلاث وثلاثين حبة او خرزة او من ستين او من تسعة وتسعين غير ان اكثر الهواة يفضلون السبحة التي تتكون من تسعة وتسعين خرزة
وتختلف انواعها وأحجاما وقد تزيد على خمسين نوعا ، ومنها ما هو من الاحجار الكريمة التي اعدت في الاصل لتكون قلائد وعقودا للنساء ، ويعتبر حجر ( الملكيت ) الروسي من الاحجار الثمينة النادرة
ن ريب عن طريق التقليد واثر سحرها في المرأة
تأثير المرأة بسحرها فشارکت الرجل
ومن الأنواع الشائعة :-
اللؤلؤ الاسود والابيض ، والكهرمان الاسود والاصفر - والاصفر بنوعيه ( العادي ) و ( العطشي ) « وهو بالأصل صمغ شجر معين ينمو في حوض بحر البلطيق ويتحجر في الشتاء » . والمرجان بانواعه الإيطالي والألماني والايراني ، والعقيق ، وبان زهر بأنواعه ، واليسر ، والعاج ، والزجاج ، والنارجيل ، والصدف « محار البحر » ، والآبنوس ، والسندروس ، وكل نوع من هذه الأنواع يتفاوت جودة وقيمة .
وللهواة في ذلك شأن الهواة من غيرهم شأن عجیب وربما غالى بعضهم امعانا في الهواية فاقتنى منها صنوفا نادرة وان اقتضاه ذلك المزيد من بذل الجهد في الحصول عليها والانفاق فيها ودفع الأثمان الخيالية عنها.
والذي يستدعي الذكر :
ان السبحة الان تتمتع بمرکز تجاری لا يستهان به، كما تتمتع بمكانة مهمة في بلاد
الشرق ، ويعتقد أن اهم الدول التي تقوم بصناعتها في الوقت الراهن مصر والعراق و
ایران مهد نشأتها الأولى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك هنا